سورة النساء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} الآية، قيل: هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في مكة بعد أن تسرعوا إليه. فلما كتب عليهم بالمدينة تثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفاً من الموت، وفرقاً من هول القتل، وقيل: إنها نزلت في اليهود، وقيل: في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال، فلما فرض كرهوه، وهذا أشبه بالسياق لقوله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} الآية. ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة. وقوله: {كَخَشْيَةِ الله} صفة مصدر محذوف، أي: خشية كخشية الله، أو حال، أي: تخشونهم مشبهين أهل خشية الله، والمصدر مضاف إلى المفعول، أي: كخشيتهم الله. وقوله: {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} معطوف على {كخشية الله} في محل جر، أو معطوف على الجار والمجرور جميعاً، فيكون في محل الحال كالمعطوف عليه، و{أو} للتنويع على أن خشية بعضهم كخشية الله، وخشية بعضهم أشد منها.
قوله: {وَقَالُواْ} عطف على ما يدل عليه قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ} أي: فلما كتب عليهم القتال، فاجأ فريق منهم خشية الناس: {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا} أي: هلا أخرتنا، يريدون المهلة إلى وقت آخر قريب من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال: {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ} سريع الفناء لا يدوم لصاحبه، وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل {لِمَنِ اتقى} منكم، ورغب في الثواب الدائم {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: شيئاً حقيراً يسيراً، وقد تقدّم تفسير الفتيل قريباً، وإذا كنتم توفرون أجوركم، ولا تنقصون شيئاً منها، فكيف ترغبون عن ذلك، وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه.
وقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} كلام مبتدأ، وفيه حثّ لمن قعد عن القتال خشية الموت، وبيان لفساد ما خالطه من الجبن، وخامره من الخشية، فإن الموت إذا كان كائناً لا محالة فمن لم يمت بالسيف مات بغيره. والبروج جمع برج: وهو البناء المرتفع، والمشيدة: المرفعة من شاد القصر: إذا رفعه، وطلاه بالشيد، وهو الجصّ، وجواب {لولا} محذوف لدلالة ما قبله عليه.
وقد اختلف في هذه البروج ما هي؟ فقيل: الحصون التي في الأرض، وقيل: هي القصور. قال الزجاج، والقتيبي: ومعنى مشيدة مطوّلة. وقيل: معناه مطلية بالشيد، وهو الجص، وقيل: المراد بالبروج: بروج في سماء الدنيا مبنية، حكاه مكيّ عن مالك، وقال: ألا ترى إلى قوله: {والسماء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] {جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً} [الفرقان: 61] {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا} [الحجر: 16] وقيل: إن المراد بالبروج المشيدة هنا: قصور من حديد.
وقرأ طلحة بن سليمان: {يُدْرِككُّمُ الموت} بالرفع على تقدير الفاء، كما في قوله:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها ***
قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} هذا، وما بعده مختص بالمنافقين، أي: إن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى، وإن تصبهم بلية، ونقمة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّ الله ذلك عليهم بقوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} ليس، كما تزعمون، ثم نسبهم إلى الجهل، وعدم الفهم، فقال: {فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أي: ما بالهم هكذا.
قوله: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته، أي: ما أصابك من خصب، ورخاء، وصحة، وسلامة، فمن الله بفضله، ورحمته، وما أصابك من جهد، وبلاء وشدّة، فمن نفسك بذنب أتيته، فعوقبت عليه. وقيل: إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثاً، أي: فيقولون ما أصابك من حسنة، فمن الله. وقيل: إن ألف الاستفهام مضمرة، أي: أفمن نفسك، ومثله قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} [الشعراء: 22] والمعنى، أو تلك نعمة، ومثله قوله: {فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبّى} [الأنعام: 77] أي: أهذا ربي، ومنه قول أبي خراش الهذلي:
رموني وقالوا يا خويلد لم ترع *** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أي: أهم هم؟ وهذا خلاف الظاهر، وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية، كقوله تعالى: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقوله: {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
وقد يظن أن قوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} مناف لقوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} ولقوله: {وَمَا أصابكم يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله} [آل عمران: 166]، وقوله: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11] وليس الأمر كذلك، فالجمع ممكن، كما هو مقرّر في مواطنه. قوله: {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً} فيه البيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجميع، كما يفيده التأكيد بالمصدر، والعموم في الناس، ومثله قوله: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [سبأ: 28]، وقوله: {قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] {وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28] على ذلك.
قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} فيه أن طاعة الرسول طاعة لله، وفي هذا من النداء بشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلوّ شأنه، وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهي إلا عما نهى الله عنه: {وَمَن تولى} أي: أعرض {فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي: حافظاً لأعمالهم، إنما عليك البلاغ، وقد نسخ هذا بآية السيف {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: أمرنا طاعة، أو شأننا طاعة.
وقرأ الحسن، والجحدري، ونصر بن عاصم بالنصب على المصدر، أي: نطيع طاعة، وهذه في المنافقين في قول أكثر المفسرين، أي: يقولون إذا كانوا عندك طاعة {وَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} أي: خرجوا من عندك. {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي: زوّرت طائفة من هؤلاء القائلين غير الذي تقول لهم أنت، وتأمرهم به، أو غير الذي تقول لك هي من الطاعة لك وقيل: معناه: غيروا وبدّلوا وحرّفوا قولك فيما عهدت إليهم، والتبييت: التبديل، ومنه قول الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيتوا *** وكانوا أتوني بأمر نكر
يقال بيت الرجل الأمر: إذا دبره ليلاً، ومنه قوله تعالى: {إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول} [النساء: 108] {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} أي: يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه.
وقال الزجاج: المعنى ينزله عليك في الكتاب. قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: دعهم وشأنهم حتى يمكن الانتقام منهم وقيل: معناه: لا تخبر بأسمائهم. وقيل: معناه: لا تعاقبهم. ثم أمره بالتوكل عليه، والثقة به في النصر على عدوه، قيل: وهذا منسوخ بآية السيف.
وقد أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف، وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة؟ فقال: «إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم»، فلما حوّله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في تفسير الآية نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: أنها نزلت في اليهود.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ} الآية، قال: نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله: {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} قال: هو الموت.
وأخرجا نحوه، عن ابن جريج.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة {فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} قال: في قصور محصنة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: هي قصور في السماء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن سفيان نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يقول: نعمة {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} قال: مصيبة {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} قال: النعم والمصائب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} قال: هذه في السرّاء والضرّاء، وفي قوله: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ} قال: هذه في الحسنات والسيئات، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها، وفي قوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ} قال: ما أصابه يوم أحد أن شجّ وجهه، وكسرت رباعيته.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي عنه في قوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} قال: هذا يوم أحد يقول: ما كانت من نكبة فبذنبك، وأنا قدّرت ذلك.
وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد أن ابن عباس كان يقرأ: «وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَنَا كتبتها عَلَيْكَ» قال مجاهد: وكذلك قراءة أبيّ، وابن مسعود.
وأخرج نحو قول مجاهد هذا ابن الأنباري في المصاحف.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} قال: هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم {فَإِذَا بَرَزُواْ} من عند رسول الله {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ} يقول: خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعابهم الله.
وأخرج ابن جرير، عنه قال غير أولئك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.


الهمزة في قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ} للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر، أي: أيعرضون عن القرآن، فلا يتدبرونه. يقال تدبرت الشيء: تفكرت في عاقبته وتأملته، ثم استعمل في كل تأمل، والتدبير: أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته، ودلت هذه الآية، وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] على وجوب التدبر للقرآن؛ ليعرف معناه. والمعنى: أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفاً غير مختلف، صحيح المعاني، قوي المباني، بالغاً في البلاغة إلى أعلى درجاتها {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} أي: تفاوتاً وتناقضاً، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات، والسور؛ لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت، وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر لا سيما إذا طال، وتعرّض قائله للإخبار بالغيب، فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع إلا القليل النادر.
قوله: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ} يقال: أذاع الشيء وأذاع به: إذا أفشاه، وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين، وقتل عدوّهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه، وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك. قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ} وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم. والمعنى: أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يذيعها، أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك؛ لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى، وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء: إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أوّل ما يخرج من ماء البئر عند حفرها. وقيل: إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها، فتحصل بذلك المفسدة. قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} أي: لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله، وإنزال كتابه لاتبعتم الشيطان، فبقيتم على كفركم إلا قليلاً منكم، أو إلا اتباعاً قليلاً منكم، وقيل: المعنى: أذاعوا به إلا قليلاً منهم، فإنه لم يذع ولم يفش. قاله الكسائي، والأخفش، والفراء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وابن جرير. وقيل: المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً منهم، قاله الزجاج.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} يقول: إن قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف.
وأخرج عبد بن حميد، ومسلم، وابن أبي حاتم، من طريق ابن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد، فوجدت الناس ينكتون بالحصا، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في الآية، قال هذا في الإخبار إذا غزت سرية من المسلمين أخبر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو يخبرهم به.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك: {وَإِذَا جَاءهُمْ} قال: هم أهل النفاق.
وأخرج ابن جرير، عن أبي معاذ مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} قال: فانقطع الكلام. وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} فهو في أوّل الآية يخبر عن المنافقين: قال: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ} {إِلاَّ قَلِيلاً} يعني: بالقليل المؤمنين.


الفاء في قوله: {فَقَاتِلْ} قيل: هي متعلقة بقوله: {وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله} [النساء: 74] الخ، أي: من أجل هذا فقاتل، وقيل: متعلقة بقوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله} [النساء: 75] فقاتل وقيل: هي جواب شرط محذوف يدل عليه السياق تقديره: إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل، أو إذا أفردوك وتركوك فقاتل. قال الزجاج: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وإن قاتل وحده؛ لأنه قد ضمن له النصر. قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة. فالمعنى والله أعلم: أنه خطاب له في اللفظ، وفي المعنى له ولأمته، أي: أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له: {فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} أي: لا تكلف إلا نفسك، ولا تلزم فعل غيرك، وهو استئناف مقرّر لما قبله؛ لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده. وقريء: {لاَ تُكَلَّفُ} بالجزم على النهي، وقريء بالنون.
قوله: {وَحَرّضِ المؤمنين} أي: حضهم على القتال، والجهاد، يقال حرّضت فلاناً على كذا: إذا أمرته به، وحارض فلان على الأمر وأكبّ عليه وواظب عليه بمعنى واحد. قوله: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} فيه إطماع للمؤمنين بكفّ بأس الذين كفروا عنهم، والاطماع من الله عز وجلّ واجب، فهو وعد منه سبحانه، ووعده كائن لا محالة {والله أَشَدُّ بَأْساً} أي: أشدّ صول وأعظم سلطاناً {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أي: عقوبة، يقال: نكلت بالرجل تنكيلاً من النكال وهو: العذاب. والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان.
{مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا} أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما من الشفع وهو: الزوج، ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعاً، ومنه ناقة شفوع: إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شفيع: إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع: ضمّ واحد إلى واحد، والشفعة: ضم ملك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة: ضمّ غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع، واتصال منفعة إلى المشفوع له. والشفاعة الحسنة هي: في البرّ والطاعة. والشفاعة السيئة في المعاصي، فمن شفع في الخير؛ لينفع فله نصيب منها، أي: من أجرها، ومن شفع في الشر، كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها، أي: نصيب من وزرها. والكفل: الوزر والإثم، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط، يقال اكتفلت البعير: إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه؛ لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً منه، ويستعمل في النصيب من الخير والشرّ.
ومن استعماله في الخير قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ مُّقِيتاً} أي: مقتدراً، قاله الكسائي.
وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته يقال: قته أقوته قوتاً، وأقته أقيته إقاتة، فأنا قائت ومقيت، وحكى الكسائي أقات يقيت.
وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ. قال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى؛ لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه: مقدار ما يحفظ الإنسان.
وقال ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت: الحافظ والشاهد. وأما قول الشاعر:
ألي الفضل أم عليّ إذا حو *** سبت إني على الحساب مقيت
فقال ابن جرير الطبري إنه من غير هذا المعنى.
قوله: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} التحية تفعلة من حييت، والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية؛ فأدغموا الياء في الياء، وأصلها الدعاء بالحياة. والتحية: السلام، وهذا المعنى هو المراد هنا، ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله} [المجادلة: 8] وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين، وروي عن مالك أن المراد بالتحية هنا: تشميت العاطس.
وقال أصحاب أبي حنيفة، التحية هنا الهدية لقوله: {أَوْ رُدُّوهَا} ولا يمكن ردّ السلام بعينه، وهذا فاسد لا ينبغي الالتفات إليه. والمراد بقوله: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا} أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدئ بالتحية، فإذا قال المبتدئ: السلام عليكم، قال المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد المبتدئ لفظاً زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدئ لفظاً أو ألفاظاً نحو: وبركاته، ومرضاته، وتحياته.
قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، وردّه فريضة لقوله: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أو لا؟ فذهب مالك، والشافعي إلى الإجزاء، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزئ عن غيره، ويردّ عليهم حديث عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجزئ عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم» أخرجه أبو داود، وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني، وليس به بأس، وقد ضعفه بعضهم.
وقد حسن الحديث ابن عبد البرّ.
ومعنى قوله: {أَوْ رُدُّوهَا} الاقتصار على مثل اللفظ الذي جاء به المبتدئ، فإذا قال السلام عليكم، قال المجيب: وعليكم السلام.
وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتدئ بالسلام، ومن يستحق التحية ومن لا يستحقها ما يغني عن البسط هاهنا. قوله: {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَئ حَسِيباً} يحاسبكم على كل شيء وقيل: معناه حفيظاً وقيل: كافياً، قولهم أحسبني كذا: أي: كفاني، ومثله: {حَسْبَكَ الله} [الأنفال: 62، 64].
قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مبتدأ وخبر، واللام في قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} جواب قسم محذوف، أي: والله ليجمعنكم الله بالحشر إلى يوم القيامة، أي: إلى حساب يوم القيامة وقيل: {إلى} بمعنى في، وقيل: إنها زائدة.
والمعنى: ليجمعنكم يوم القيامة، و{يَوْمُ القيامة} يوم القيام من القبور {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي: في يوم القيامة، أو في الجمع، أي: جمعاً لا ريب فيه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه. وقرأ حمزة، والكسائي، {ومن أزدق} بالزاي. وقرأ الباقون بالصاد، والصاد الأصل.
وقد تبدل زاياً لقرب مخرجها منها.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي سنان في قوله: {وَحَرّضِ المؤمنين} قال: عظهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً} الآية، قال: شفاعة الناس بعضهم لبعض.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا} قال: حظ منها. وقوله: {كِفْلٌ مَّنْهَا} قال: الكفل هو الإثم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال: الكفل الحظ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في قوله: {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ مُّقِيتاً} قال: حفيظاً.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عبد الله بن رواحة: أنه سأله رجل، عن قول الله: {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ مُّقِيتاً} قال: يقيت كل إنسان بقدر عمله. وفي إسناده رجل مجهول.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {مُّقِيتاً} قال: شهيداً.
وأخرج ابن جرير عنه {مُّقِيتاً} قال: شهيداً حسيباً حفيظاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {مُّقِيتاً} قال: قادراً.
وأخرج ابن جرير، عن السدّي قال: المقيت القدير.
وأخرج أيضاً، عن ابن زيد مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال: المقيت الرزاق.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: من سلم عليك من خلق الله، فاردد عليه، وإن كان يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً، ذلك بأن الله يقول: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ} الآية.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه. قال السيوطي بسند حسن عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك ورحمة الله، ثم أتى آخر، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال: وعليك ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال له: وعليك، فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك، فرددت عليهما أكثر مما رددت علي؟ فقال: إنك لم تدع لنا شيئاً، قال الله: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فرددناها عليك».
وأخرج البخاري في الأدب المفرد، عن أبي هريرة: أن رجلاً مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلس، فقال: سلام عليكم، فقال: «عشر حسنات»، فمرّ رجل آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: عشرون حسنة، فمرّ رجل آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: «ثلاثون حسنة».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر مرفوعاً نحوه.
وأخرج البيهقي، عن سهل بن حنيف مرفوعاً نحوه أيضاً.
وأخرج أحمد، والدارمي، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والبيهقي، عن عمران بن حصين مرفوعاً نحوه أيضاً، وزاد بعد كل مرّة أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ عليه، ثم قال: «عشر» إلى آخره.
وأخرج أبو داود، والبيهقي عن معاذ بن أنس الجهني مرفوعاً نحوه. وزاد بعد قوله وبركاته: ومغفرته، فقال: «أربعون»، يعني حسنة.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11